الخميس، ٢٥ أبريل ٢٠١٣

وشم

بالأمس رأيته رجلا أشيب وشم على صدره خارطة لفلسطين ويمسك بيده إبنه الصغير، وقد تدلت على صدر الصغير سلسلة ذهبية تحمل خارطة لفلسطين! .. كان الأب وابنه بلباس البحر على شاطئ اختلط فيه الغرباء من كل مكان، غير أن ملامحمها امتازت عن غيرها، فقد تمادت الغربة في افتراس مُحياهما .. فاكتسى وجهاهما بالتشرد والغربة واللاهوية!.

تداعت الصور في مخيلتي متلاحقة .. واجتهدت ان أعرف من هو الرجل؟ وإذ به ابن لأحد مقاتلي الثورة الفلسطينية في عقد السبعينات، وهذا الرجل ايضاً قد حمل السلاح مقاتلا لعشرين عاما .. يعلق الآن السلسلة الذهبية لخارطة فلسطين في عنق ابنه الصغير!.

هي سلالات تحمل عبء الوفاء كاملا لا تتزحزح عنه قيد أنملة، بل هو نهج يعنى أناسا دون آخرين بغض النظر عما يتحقق على أرض الواقع  من وهم "السلام" و خرائط لوطن يجبرونة ان يقبل القسمة على اثنين او ثلاثة أو حتى الف.. فأصحاب هذا النهج "التصالحي" مع ما يدعون انة "واقعية سياسية"  قد نسوا أو هم يحاولون النسيان أن هنالك أناساً غيرهم  يولد فيهم الالتزام .. ويكون فيهم الوفاء فطرة او غريزة تنمو وتكبر بمرور الأيام .. ثابتون راسخون لا ينضوون تحت لواء أحد ممن يغيرون جلودهم كل يوم  .. ثابتون ثبات الوشم الذي زرعوه على صدورهم وأذرعهم .. مختارين .. غير عابئين بما قد يتركه هذا الوشم من أثر نفسي .. او شبهة سياسية .. او تصنيف اجتماعي قد يأتي عليهم بالمتاعب في زمن المتغيرات واللاثبات.

إن اختيار الوشم ليبقى على ذرى القلوب ليذكرنا بعهدنا، لهو شيء جميل حقا، خاصة إذا ما كان هنالك عزم حقيقي على التواصل مع من نذرنا له العهد .. وما دامت هنالك امكانية السعي لتحقيق الهدف المنشود .
 
 كنت في ما مضى و قبل هذا الحادث المسروق من ضباب الذكريات و شمس الواقع، أعتقد جازما بلا جدوى الوشم على الاجساد خوفا من يصبح الوشم تذكاراً يدع المرء مرتهناً لما كان، فهذا اقسى مما يحتمله مقاتل أو حتى انسان .. وأن تصبح فلسطين وشماً على الجلود .. وسلاسل ذهبية تعنى الانتساب الى الماضي المجرد من كل ما يربطه بالحاضر .. كنت أعتقد ان هذا الوشم  هو أمر يستدعي الرثاء او حتى الشفقة لمن قاموا به، لأنة يعني أن نكون دائماً في حضرة الماضي !! .. و كان الوشم يذكرني دوماً بذلك العاشق الذي وشم اسم فتاته على صدره .. وما كان من الزمن الا ان سلبه فتاته وأبقى له الوشم تذكاراً ينزَ بالخيبة والألم ما تبقى له من أيام!؟
 
 لكن هذا الحادث حرك هذا الاعتقاد من مكانه، ازاحه من خانة الوهم المطلق و اخضعه لنقاش مع نفسي من جديد، كأني  غدوت على يقين- أو كدت أن أصل لهذا اليقين- أن بعض من يـُقدِمون على الوشم يرفضون استبدال الأحباب والأصدقاء والأوطان والعقائد ! .. إنهم فئة نادرة ترهن المستقبل للحاضر الموشوم .. هؤلاء الاوفياء المخلصون يعشقون مذاهبهم، ويسعدهم البقاء في صوامعها أبد الدهر .. لا يحبطهم شيء مهما واجهوا من عذاب .. مثلهم كمثل الفلاسفة و المفكرين يحملون الرسالة الاولى ابداً، تحقيقا للمـُثل والقيم التي آمنوا بها .. ويبقى عهدهم  لها قائما يتجدد في ذواتهم كل يوم! .. ويمنحهم إما الأمل لمواصلة السعي بأتجاه الهدف، وإما الوفاء لذكرى عزيزة .. لا ينفصل فيها الحاضر عن الماضي أبدا .. هذا الماضي الذي ننتمي اليه بكل جزيئات الحياة.

فهل نندم على وشم وشمناه على الأذرع والصدور اذا ما ابتعد عنا الهدف ونأى؟! .. كلا !! .. هي فكرة قدسناها فوشمناها على الجسد لتعيش في الوجدان الى الأبد .. ولتصبح الحياة مرهونة لأجلها .. لا يضير في هذا ما تحقق أو ما لم يتحقق .. فنحن نكتوى فعلا بنار ما لم يتحقق من الأمنيات، ولكننا نحترق تماما إذا ما تجردنا من مبادئنا .. وقيمنا .. لنصبح دونها لا شيء .. لا شيء على الإطلاق.
 
صيف 2005

ليست هناك تعليقات: