الخميس، ٢٥ أبريل ٢٠١٣

اعتذار عن موعد مع الموت


سيدي ..

 

أعتذر لك، قد لا أستحقك الآن، قد لا أستحق نهاية بهذا الوضوح، أعذرني فلستُ مستعداً ربما، لم تتقن روحي بعدُ أصول استقبال ضيف يحمل هدية معروفة لمضيفة، هي بهجة الاحتفال بالنهاية، هي اغراء التمرد على الاسرار، هي آخر البوح بين خصمين اعتادا على مبارزة مستمرة، خصمين لا يعترف أحدهما بالآخر الا اذا نظر في مرآة خصمة للمرة الأخيرة.

 

قد لا أستحق أن أصحو في يوم فلا أجدني، لتخبرني روحي أني غادرت معها.. هناك، حيث الخلود هو الفناء، حيث يعلن الماضي نهايته، و يفتح القادم المجهول ذراعيه.. اذاً هو هذا الحاضر .. هذه اللحظة، هذا ما أستحقه الآن، أن تبقى روحي في أتون الحياة.. تتقلب على نار الخطايا وصقيع احتمالات التحقق، أن تعيش دهشة الاكتشاف و خيبة الانكسار، أن تستقبل الشمس و تودعها بتكرار رتيب.. دون أن تتعلّم منها فن الحضور و فلسفة الغياب.

 

كما في أيام مضتْ، أحسُ أن صاعقة جبارة قد مستني، مستْ بُـنياني المادي، و صرح أحلامي الذي اختلط فية السر بالسر.. و امترج فية الوهم بوهم الحقيقة، فأتحول الى شخصية شيطانية مسكونة بالتوق للبعيد، بالرغبة بالسير دون توقف، بغير اتجاه.. بخطى حلم مُبهم بأن أمراً خارقاً سيحدث، نهاية تفسر الحاضر، و تزيل ضباب الرؤية عن سماء تمطر في دمي كل لحظة سؤال .

 

تهتاج روحي كما لو أن سلكاً كهربائياً قد مسني، يستفز روحي سكون اللحظة.. ماذا لو تجرأتُ على الكلام؟؟ .. لأطلق صوتاً مجلجلاً يهدر بانفعالات الأحزان و العذابات المُرة جميعاً.. هل سيتردد صداه في أرجاء ذاكرتي الأربع؟؟ .. هل الصمت خيار ممكن؟.. هل البلادة هي آخر الحلول؟ .. هل الفناء سر الخلود؟.. هل الموت حضور الغياب الممكن؟.. و هل للموت ذاكرة يهرب منها ايضاً ؟ .. هل يحتلني الموت كسيّدِ و أرغبة كعبدّ ؟!

 

و يأتي صوت فيروز كموجة بحرية من بعيد .. تغني : " قالوا بنيّة.. بعيونها نيسان عم يتفيا.. بعيونها نيسان" .. أضع الحبر جانباً و أخدّر روحي بنصف زجاجة من خمر الذكريات، لقد نبتتْ للأغنية أصابع من لهب !!.. أصابع صافية من نور.. تتصل بأحشائي، فيها رحمة قاسية، كأن هذه "البنيّة" التي يتفيأ نيسان بعينيها قد استمدت من صوت فيروز عذوبة الساقية و عنفوان البركان.. حرارة اللهب من الشمس و ثلج القمم في لبنان.. "بنيّة" جسدها من نار.. عيونها من ليل .. شفتاها من خوخ .. و سحرها كعروس هذا البحر الماثل أمامي، أنظر في هذا الغامض الرصاصي الممتد بلا نهاية ، أنتظر أن تخرج هذه "البنيّة" لتحملني وليمة لأسماك البحر، قرباناً لعشق يبرح في روحي، عشق النهاية الأزلي.. عسى في هذا القاع أن تستقر روحي و أعثر على ما كنت أبحث عنة.

 

يجرفني الحلم بعيداً مع صوت فيروز الذهبي .. صوت لأمواج هذا البحر، يتردد صداه في ثنايا لـُجة روحي. كأن هذه "البنيّة" قد أطلت اخيراً، تمشي على الشاطئ الرملي .. تقترب .. تبعثر خطواتها سكوني الصخِب، فأهيئ روحي للسفر، يصل صوتها قريباً من أذنيّ .. أكاد أسمعه، تقول: أنت لست بريئاً .. لكنك أقرب المخطئين للتوبة ..أنت المؤمن الكافر .. المتمرد الخاضع .. القوي الذي لا تحبه القوة .. المـُثقل بالذنوب و الجدير بالغفران أيضا .. فقلت: سأجن لا محالة !!..

 

و رفعتُ نصف الزجاجة الباقي و شربته .. ثم أعطيت قلبي للغناء ….
 
 
صيف 2009

 

ليست هناك تعليقات: